كأنه قبضة من أرض الشام عُجنت بنهري النيل والفرات، لوحتها شمس صحراء العرب، فانطلقت بإذن ربها نفسًا عزيزة أبية، تنافح عن الدعوة، وتذود عن حياض الدين.
ذلكم هو العلامة الكبير، الفقيه النجيب، والأديب الأريب الشيخ علي الطنطاوي، الذي فقدته الأمة قبل فترة، لتنثلم بذلك ثلمة كبيرة، ضاعفت آلامنا وأدمت قلوبنا.
كان الشيخ الطنطاوي قوة فكرية من قوى الأمة الإسلامية، ونبعًا نهل منه طالبو العلم والأدب في كل مكان، كان قلمه مسلطًا كالسيف سيالًا كأعذب الأنهار وأصفاها، رائعة صورته، مشرقًا بيانه.
وفي ذلك يقول عن نفسه: "أنا من جمعية المحاربين القدماء هل سمعتم بها؟ كان لي سلاح أخوض به المعامع، وأطاعن به الفرسان، وسلاحي قلمي، حملته سنين طوالًا، أقابل به الرجال، وأقاتل به الأبطال، فأعود مرة ومعي غار النصر.
وأرجع مرة أمسح عن وجهي غبار الفشل. قلمٌ إن أردته هدية نبت من شقه الزهر، وقطر منه العطر، وإن أردته رزية حطمت به الصخر، وأحرقت به الحجر، قلم كان عذبًا عند قوم، وعذابًا لقوم آخرين".
علي الطنطاوي.. حياته ونشأته:
ولد الشيخ علي الطنطاوي في مدينة دمشق في 23 جمادى الأولى 1327هـ الموافق 12 يونيو 1909م، من أسرة علم ودين.
فأبوه الشيخ مصطفى الطنطاوي من أهل العلم، وجده الشيخ محمد الطنطاوي عالم كبير، وخاله الأستاذ محب الدين الخطيب الكاتب الإسلامي الكبير والصحفي الشهير.
تفتح وعيه على قنابل الحلفاء تدك عاصمة الأمويين، وفلول الأتراك تغادر المدينة، وديار الشام مقفرة بعد أن عزَّ الطعام وصارت أوقية السكر (200 جرام) بريال مجيدي كان يكفي قبل الحرب لوليمة كبيرة.
وكان أول درس قاس تعلمه وعاشه تفكك الدولة العثمانية وتحول ولاياتها السابقة إلى دويلات؛ فسوريا أصبحت أربع دول: واحدة للدروز، والثانية للعلويين، والثالثة في دمشق، والرابعة في حلب.
كان الفتى علي الطنطاوي وقتها ما زال تلميذًا في المدرسة، لكن وعيه كان يسبق سنَّه، فعندما أعلن في مدرسته عن المشاركة في مسيرة لاستقبال المفوض السامي الجديد الجنرال ويفان الذي حلَّ محل الجنرال جورو، رفض ذلك وألقى خطبة حماسية، قال فيها: "إن الفرنسيين أعداء ديننا ووطننا، ولا يجوز أن نخرج لاستقبال زعيمهم".
لله درك يا فتى! أدركت ما لم يدركه الكبار، فكيف تستقبل أمة عدوها الذي سلبها حريتها؟! وكيف تنسى ما قاله قائد هذا العدو بعد معركة ميسلون ودخول الشام عندما زار الجنرال جورو قبر صلاح الدين وقال له: (ها نحن عدنا يا صلاح الدين، الآن انتهت الحروب الصليبية).
تلك المعركة التي كانت نقطة تحول في وعي الفتى علي الطنطاوي، فقد خرج منها بدرس ممهور بدماء الشهداء واستقلال الأمة.. درس يقول: إنَّ الجماهير التي ليس عندها من أدوات الحرب إلا الحماسة لا تستطيع أن ترد جيشًا غازيًا.
أصبح الاحتلال الفرنسي واقعًا جديدًا في سوريا، وغدا حلم الدولة المستقلة أثرًا بعد عين، وكما حدث في كل بقاع العالم الإسلامي كان العلماء رأس الحربة في مواجهة المحتل، وتولى الشيخ بدر الدين الحسيني شيخ العلماء في مدن سوريا قيادة ثورة العلماء الذين جابوا البلاد يحرضون ضد المستعمر.
فخرجت الثورة من غوطة دمشق وكانت المظاهرات تخرج من الجامع الأموي عقب صلاة الجمعة، فيتصدى لها جنود الاحتلال بخراطيم المياه ثم بالرصاص، والشاب علي الطنطاوي في قلبٍ من تلك الأحداث.
علي الطنطاوي.. خطيب المقاومة:
في أحد الأيام كان الشيخ علي الطنطاوي على موعد لصلاة الجمعة في مسجد القصب في دمشق، فقال له أصحابه:
إنَّ المسجد قد احتشد فيه جمهور من الموالين للفرنسيين، واستعدوا له من أيام وأعدوا خطباءهم، فرأينا أنهم لا يقوى لهم غيرك. فحاول الاعتذار، فقطعوا عليه طريقه حين قالوا له: إنَّ هذا قرار الكتلة (كان مقاومو الاحتلال ينضوون تحت لواء تنظيم يسمى الكتلة الوطنية وكان الطنطاوي عضوًا فيها).
فذهب معهم وكان له صوت جهور، فقام على السّدة مما يلي "باب العمارة" ونادى: إليَّ إليَّ عباد الله، وكان نداء غير مألوف وقتها، ثم صار ذلك شعارًا له كلما خطب، فلما التفوا حوله بدأ ببيت شوقي:
وإذا أتونا بالصفوف كثيرة *** جئنا بصف واحد لن يكسرا
وأشار إلى صفوفهم المرصوصة وسط المسجد، وإلى صف إخوانه القليل، ثم راح يتحدث على وترين لهما صدى في الناس هما الدين والاستقلال.
فلاقت كلماته استحسانًا في نفوس الحاضرين، وأفسدت على الآخرين أمرهم، وصرفت الناس عنهم. ولما خرج تبعه الجمهور وراءه، وكانت مظاهرة للوطن لا عليه.
علي الطنطاوي في مصر:
في 1928م دعاه خاله محب الدين الخطيب للقدوم إلى مصر وكان قد أصدر مجلة "الفتح" قبل ذلك بعامين، فسافر علي الطنطاوي إلى مصر للدراسة في كلية دار العلوم.
لكن المناخ الثقافي في مصر في ذلك الحين شده للانخراط في العمل الصحفي الذي كان يشهد معارك فكرية وسجالات أدبية حامية الوطيس حول أفكار التقدم والنهضة والإسلام والاستعمار وغيرها.
وكان طبيعيًّا أن يأخذ الشاب علي الطنطاوي موقعه في صفوف الذائدين عن حياض الإسلام المناوئين للاستعمار وأذنابه، وظل الطنطاوي في موقعه لم يتراجع أو يتململ أو يشكو تكالب الأعداء أو قلة الإمكانيات، فكان الفارس الذي لم يؤت من ثغره.
لم يكمل دراسته في كلية دار العلوم وعاد إلى دمشق ليلتحق بكلية الحقوق التي تخرج فيها عام 1933م.
ثم عمل مدرسًا في العراق، ولما عاد إلى دمشق عمل قاضيًا شرعيًّا عن علم ودراسة وتدرج في الوظائف التعليمية والقضائية حتى بلغ فيها مكانة عالية، ثم درّس في العراق سنة 1936م.
ورجع إلى بلده فلم يلبث أن انتقل إلى القضاء، فكان القاضي الشرعي في "دوما"، ثم ما زال يتدرج في مناصب القضاء حتى وصل إلى أعلى تلك المناصب، وكان قد ذهب إلى مصر لدراسة أوضاع المحاكم هناك.
علي الطنطاوي في السعودية:
ثم هاجر إلى المملكة العربية السعودية 1963م فعمل في التدريس في كلية اللغة العربية وكلية الشريعة في الرياض.
ثم انتقل إلى التدريس في كلية الشريعة في مكة المكرمة ثم تفرغ للعمل في مجال الإعلام وقدم برنامجًا إذاعيًّا يوميًّا بعنوان "مسائل ومشكلات"، وبرنامجًا تلفزيونيًّا أسبوعيًّا بعنوان "نور وهداية".
وظل طوال تنقله بين عواصم العالم الإسلامي يحن إلى دمشق ويشده إليها شوق متجدد. وكتب في ذلك دررًا أدبية يقول في إحداها:
(وأخيرًا أيها المحسن المجهول، الذي رضي أن يزور دمشق عني، حين لم أقدر أن أزورها بنفسي، لم يبق لي عندك إلا حاجة واحدة، فلا تنصرف عني، بل أكمل معروفك، فصلّ الفجر في "جامع التوبة" ثم توجه شمالًا حتى تجد أمام "البحرة الدفاقة" زقاقًا ضيقًا جدًّا، حارة تسمى "المعمشة" فادخلها فسترى عن يمينك نهرًا.
أعني جدولًا عميقًا على جانبيه من الورود والزهر وبارع النبات ما تزدان منه حدائق القصور، وعلى كتفه ساقية عالية، اجعلها عن يمينك وامشِ في مدينة الأموات، وارع حرمة القبور، فستدخل أجسادنا مثلها.
دع البرحة الواسعة في وسطها وهذه الشجرة الضخمة ممتدة الفروع، سر إلى الأمام حتى يبقى بينك وبين جدار المقبرة الجنوبي نحو خمسين مترًا، إنك سترى إلى يسارك قبرين متواضعين من الطين على أحدهما شاهد باسم الشيح أحمد الطنطاوي، هذا قبر جدي، فيه دفن أبي وإلى جنبه قبر أمي فأقرئهما مني السلام.
واسأل الله الذي جمعهما في الحياة، وجمعهما في المقبرة، أن يجمعهما في الجنة، {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح: 28]، {رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24]، رب ارحم بنتي واغفر لها، رب وللمسلمين والمسلمات).
علي الطنطاوي كاتبا وداعية:
ويعد الشيخ علي الطنطاوي أحد رموز الدعوة الإسلامية الكبيرة في العالم الإسلامي وشخصية محببة ذائعة الصيت نالت حظًّا واسعًا من الإعجاب والقبول، وله سجل مشرف في خدمة الإسلام والمسلمين.
كان يتمتع بأسلوب سهل جميل جذاب متفرد لا يكاد يشبهه فيه أحد، يمكن أن يوصف بأنه السهل الممتنع، فيه تظهر عباراته أنيقة مشرقة، فيها جمال ويسر، وهذا مكّنه أن يعرض أخطر القضايا والأفكار بأسلوب يطرب له المثقف، ويرتاح له العامي، ويفهمه من نال أيسر قسط من التعليم.
اشتهر الشيخ الطنطاوي بسعة أفقه وكثرة تجواله وحضور ذهنه وذاكرته القوية، ولذلك تجيء أحكامه متسمة بصفة الاعتدال بعيدة عن الطرفين المذمومين: الإفراط والتفريط. وقد كتب في صحف بلده في الشام، فاحتل مكانة مرموقة فيها.
ثم أضحى من كبار الكتاب، يكتب في كبريات المجلات الأدبية والإسلامية مثل "الزهراء" و"الفتح" و"الرسالة" و"المسلمون" و"حضارة الإسلام" وغيرها، وكانت له زوايا يومية في عدد من الصحف الدمشقية.
ومن المجالات التي سبق إليها الكتابة في أدب الأطفال والمشاركة في تأليف الكتب المدرسية، وتحقيق بعض كتب التراث، وله جولات في عالم القصة فهو من أوائل كتابها.
كانت مساجلاته تملأ الأوساط الفكرية والأدبية طولًا وعرضًا، وكان لا يكف عن إصدار رسائله التي يحذر فيها من مغبة الانخداع بالنحل الباطلة. ومن طريف ما تعرض له في إحدى مساجلاته ما يرويه عن نفسه (كنا يومًا أمام مكتبة "عرفة" فجاء رجل لا يعرفه.
فاندس بيننا وحشر نفسه فينا، وجعل يتكلم كلامًا عجيبًا، أدركنا منه أنه يدعو إلى نحلة من النحل الباطلة، فتناوشوه بالرد القاسي والسخرية الموجعة.
فأشرت إليهم إشارة لم يدركها: أن دعوه لي، فكفوا عنه وجعلت أكلمه وأدور معه وألف به، حتى وصلت إلى إفهامه أني بدأت أقتنع بما يقول، ولكن مثل هذه الدعوة لا بد فيها من حجة أبلغ من الكلام، فاستبشر وقال: ما هي؟ فحركت الإبهام على السبابة، وتلك إشارة إلى النقود.
قال: حاضر، وأخرج ليرتين ذهبيتين يوم كانت الليرة الذهبية شيئًا عظيمًا. مد يده بالليرتين فأخذتهما أمام الحاضرين جميعًا، وانصرف الرجل بعد أن عرفنا اسمه، فما كاد يبتعد حتى انفجرت الصدور بالضحك، وأقبلوا عليَّ مازحين، فمن قائلٍ شاركنا يا أخي، وقائل: اعمل بها وليمة، أو نزهة في بستان.
قلتُ: سترون ما أنا صانع، وذهبتُ فكتبت رسالة، تكلمت فيها عن الملل والنحل والمذاهب الإلحادية، وجعلت عنوانها "سيف الإسلام" وكتبت على غلافها "طبعت بنفقة فلان" باسم الرجل الذي دفع الليرتين، وبلغني أنه كاد يجن ولم يدر ماذا يفعل، ولم يستطع أن ينكر أمرًا يشهد عليه سبعة من أدباء البلد، وقد بلغني أن جماعته قد طردته بعد أن عاقبته).
كما كان الفقيد -يرحمه الله- داعية شجاعًا ثابتًا على مبدئه لا يلين، ولا يهادن، كما يقتحم الأهوال، وينازل الرجال، يلج عرين الآساد، وربما عرض نفسه -باختياره- لمخالب تمزق جلد التمساح، كل ذلك في سبيل إيمانه بفكرته الإسلامية، والتضحية من أجل إعلائها مهما كان الثمن.
وقد ترك الشيخ علي الطنطاوي أثرًا كبيرًا في الناس، وساهم في حل مشكلاتهم عن طريق كتابته ورسائله وأحاديثه.
وقد كان له دور طيب في صياغة قانون الأحوال الشخصية في سوريا، وهو واضع مشروع هذا القانون على أسس الشريعة الإسلامية.
كما وضع قانون الإفتاء في مجلس الإفتاء الأعلى، وانتخب عضوًا في المجمع العلمي العراقي في بغداد. وفي كل أعماله كان يبتغي الأجر من ربه ويسعى إلى واسع
مغفرته، يقول: ينجيني قانون {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، إني والله أخشى ذنبي ولكني لا أيْئَس من رحمة ربي.. وآمل أن ينفعني إذا مت صلاة المؤمنين عليَّ ودعاء من يحبني، فمن قرأ لي شيئًا أو استمع لي شيئًا فمكافأتي منه أن يدعو لي، ولدعوة واحدة من مؤمن صادق في ظهر الغيب خير من كل ما حصلت من مجد أدبي وشهرة ومنزلة وجاه.
علي الطنطاوي مربيا:
رزق الشيخ الجليل خمسًا من البنات، وقد كن لفقد إحداهن "بنان" -وقد قتلت اغتيالًا في مدينة "آخن" الألمانية مع زوجها عصام العطار- أكبر الأثر على نفسه، ولكنه احتسب الله فيها وتمسك بالصبر والتسليم بقضاء الله، وقد كان لفضيلته أسلوبه المتميز في التربية ومعاملة البنات.
تقول حفيدته عبادة العظم: نشأت وترعرعت في كنف جدي وأمي وأنا أعتقد -كما يظن ويعتقد كل طفل- أن كل الناس يتربون ويتوجهون في بيئة إن لم تماثل بيئتي فهي مشابهة لها.
وكنت أسمع الناس يمتدحون جدي فلا أدرك من الحقيقة إلا أن الناس عرفوه لأنه يحدثهم في الراديو والتلفزيون، فأحبوه، فامتدحوه، وكنت أنا مثلهم أحبه كثيرًا؛ لما أراه منه، فلم أعر الأمر اهتمامًا.
وما لبثت أن كبرت قليلًا، واختلطت بالناس فبدأت أدرك شيئًا فشيئًا الفروق الجوهرية بين جدي مربيًا وبين سائر المربين، وكنت كلما اجتمعت مع أقراني لمست التباين بين أسلوبه في التوجيه وبين أسلوب بقية الوالدين.
وكنت كلما سمعت مشكلات الآباء في تربية الأبناء، أعترف لجدي بالتميز والإبداع في معالجة الأخطاء وتعديل الطباع، وساهمت خالاتي وأمي في تبصيري، وذلك بما كنّ يقصصنه عليَّ من قصصهن مع جدي، وبما كن يكنّنه له من الاحترام والشكر والتقدير، وبما كنّ يحملنه من إيمان عميق بالله، ومبادئ عظيمة تعلموها من شرع الله.
فلم أكد أتفهم هذه الحقائق، وأتبين الأثر الكبير الذي أوجده جدي فينا، حتى شرعت بكتابة المواقف المهمة العالقة في ذاكرتي، إذ أحسست بأن هذه التوجيهات حري بها أن لا تبقى حبيسة معرفة بعض الناس الذين هم أحفاد الطنطاوي بل ينبغي أن تنشر ليطلع عليها الناس؛ لتكون لهم عونًا في تنشئة أبنائهم وبناتهم؛ ولهذا أصدرت عنه كتابي.
وعن كتابها "هكذا ربانا جدي علي الطنطاوي" تقول:
لم أكن عند جدي عندما عرض الكتاب عليه لأول مرة. فقد حمله إليه زوج خالتي "نادر حتاحت" بصفته ناشر الكتاب، ولما قرأه جدي اتصل بي هاتفيًّا وقال: الكتاب جيد بل هو جيد جدًّا، وأسلوبه جميل. لكنه عقّب بقوله: ومن الصعب عليَّ يا ابنتي أن أمتدح هذا الكتاب أو أدلي برأيي الصريح عنه؛ لأنه عني.
وأخشى أن يظن الناس أني أفعل لأجل ذلك. ثم ختم كلامه بقوله: وأنا لست كما وصفت، فأنت التي جملت الحوادث وصورتها بتلك الطريقة. وكان ذلك تواضعًا منه، فأنا ما كتبت غير الحقيقة وما صورت إلا ما رأيته، وما قال ذلك جدي إلا تواضعًا.
وعن رؤية الشيخ الطنطاوي للمرأة، وخصوصًا أنه لم يرزق بالبنين تقول:
جدي إنسان كأي إنسان آخر يحب أن يرزق البنين، فيحملون اسمه ويتعلمون مما علمه الله ويكونون خلفاء له وهو لم يتوقع أصلًا ألا يولد له ذكر، فلما جاءته ابنته الأولى رضي بقضاء الله وسعد بها، بل أحبها وأخواتها -من بعد- حبًّا شديدًا، وأولاهن من العناية والرعاية والاهتمام ما لم يوله أب آخر ممن أعرف أو سمعت عنهم.
أما احترامه للمرأة فهو شيء معروف عنه، وكان في أحاديثه يدافع عن النساء ويذبّ عنهن، ويحذر الرجال من الظلم والتعدي، وكان يردد دائمًا: أن الدرجة للرجل على المرأة درجة واحدة، وليست سلمًا. حتى لقّبوه بناصر المرأة، وهو كذلك معنا فقد كان يؤثرنا أحيانًا -نحن الحفيدات- على الأحفاد، وقد بذل لنا الكثير، وأكرمنا زيادة عنهم في بعض المواقف ولكن دون أن يشعروا؛ حتى لا يتسبب ذلك في أذاهم.
وحول شخصية الشيخ علي الطنطاوي وكيف جمع بين العلم والدين والأدب والحياة تقول: ساءلت نفسي هذا السؤال مرة، ثم وجدت الجواب في سيرة جدي، فقد مر بظروف قاهرة ومؤلمة، فعوذه الله بمجموعة من العطايا، أهلته إلى النجاح.
كان يتيمًا وحيدًا بلا أب ولا أم ولا سند مادي أو معنوي، فأعطاه الله العقيدة السليمة، وقوة الشخصية، فكان بلسانه وقلمه سيفًا مسلولًا على أعداء الله ورسوله؛ إذ كان يترصد الباطل ويقتله، ينازل الفسوق فيقهره.
ويبارز الكفر والانحلال والمجون فيغلبهم جميعًا، وكان صدّاعًا بالحق، لا يسكت عن إنكار منكر، ولا تمنعه منه هيبة ذي سلطان، جريئًا لا يهاب أحدًا ولا يخشى إلا الله، متمردًا على العادات والتقاليد المخالفة للإسلام، فرفع الله بعمله هذا ذكره بين الناس.
وكان محبًّا للعزلة والانفراد، فأعطاه الله حب العلم، والشغف بالقراءة والاطلاع، ورزقه الذكاء والذاكرة العجيبة، وسرعة الاستيعاب فلم تكن إلا سنون حتى جمع علمًا غزيرًا متنوعًا، فهو أديب، ولغوي فقيه، وعالم نفس، وهو قارئ نشيط في الطب والفلك، فسهل الله له بعلمه الطريق إلى عقول الناس.
وكان هيّابًا للاجتماع بالناس، فأعطاه الله القدرة على مخاطبتهم من بعيد، أي عن طريق وسائل الإعلام على اختلاف مشاربهم، وأعطاه روح الفكاهة، وحلاوة الأسلوب، والابتكار في العرض، والقدرة على الإقناع، والمرونة في الإفتاء فوصل إلى قلوب الكثيرين.
وتقول أمان علي الطنطاوي ترثي والدها الفقيد الذي توفي عام 1999م في جدة بالسعودية:
إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا عليك يا أبتاه لمحزونون، أبتاه أنت شمس حياتنا ونور أيامنا.. أبتاه يعز علينا الفراق، ويحز في النفس غياب صوتك ووجهك، لكنك في القلب أنت في العقل أنت.. أبتاه يا نبض أيامي، أبتاه ملهم أفكاري..
أبتاه يا أحب وأغلى الناس، رحمك الله وأسكنك فسيح جناته. إن مجموع محبيك يدعون لك بالرحمة والمغفرة، وأن يسكنك فسيح جناته ويجعل قبرك روضة من رياض الجنة، ويجمعنا معك في جنة الخلد.
أبتاه ها قد لحقت ببنان التي حزنت عليها دومًا ولم تذكر اسمها إلا هذا العام ولم تلح في طلبها إلا وأنت مريض بالإشارة، أشرت بإصبعك الثاني قلت لك: بنان، هززت رأسك، يا أحب الناس ها قد التقيت ببنان. جعلك الله وإياها من أهل الجنة.
قالوا عنه:
يقول الشيخ مجاهد محمد الصواف الذي رافق الشيخ علي الطنطاوي منذ كان في العاشرة من عمره: من أبرز سماته -رحمه الله- هدوء الشيخ وفهمه لما يجري في العالم، وارتباطه العميق بالدعوة إلى الله والتزامه في ذلك بالقرآن والسنة؛ مما مكنه من طرح موضوعاته وما يهدف إليه من نشر التوعية والدعوة بشكل يقبله الناس.
وكان كاتبًا رائعًا إذا أمسك القلم وإذا أراد أن يبكي أبكى، وإذا أراد أن يضحك أضحك، فيجمع في أسلوبه الدعوي كل أساليب التربية، فكان يجيب عن أطنان من الرسائل ولم يكن يتحرج في الإجابة عن أي سؤال يطرح في مجتمعنا، واستطاع بحكمته ووسطيته وأسلوبه الرائع في طرح القضايا والمشكلات أن يكسب القبول من الناس جميعًا.
وقال الدكتور حسن محمد سفر أستاذ نظم الحكم الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز بجدة: بفقدان العلامة الشيخ علي الطنطاوي، فَقَد العالم الإسلامي علمًا من أعلام الفكر والثقافة الإسلامية، وكان -رحمه الله- يطل على المسلمين من الشاشة أسلوب مبسط يبين فيه أحكام الإسلام ووجهة نظر المجتهدين من علماء الشريعة فيما يتعلق بالمسائل والأحكام والفتاوى.
وكان هذا الأسلوب الشيق مميزًا يضيف إليه سماحته من الطرف والقصص ما يربط به الموضوع فتستخلص منه العبر والعظات.
وقد كان هذا الأسلوب محببًا لدى الشباب، فرحم الله هذه الثلة المباركة من علماء الإسلام، وعوضنا في سماحته كل خير، وحفظ الله علماءنا ليؤدوا الرسالة التي أنيطت بهم، والحمد لله على كل حال.
أما الشيخ محمد فيصل السباعي مدير إدارة النشر بجامعة أم القرى، وأحد المقربين من الشيخ الطنطاوي، فيقول: لقد رافقت الشيخ علي الطنطاوي في كثير من الفترات عرفت فيها حماسه وغيرته على الإسلام.
وعرفت فيه رمزًا من رموز العلم والتعليم، عرفته -رحمه الله- قرابة نصف قرن، وكان عالمًا عاملًا كثير التواضع للجميع وبخاصة في مجال الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
وكان -رحمه الله- موسوعة متنقلة، وإنا لنشهد له بالخير والصلاح ولا نزكيه على ربه، ونسأل الله تعالى أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء والمثوبة، ويعوض العالم الإسلامي بفقده، ويلهم ذويه ومحبيه الصبر والسلوان، وأن يسكنه فسيح جناته.
المصدر: موقع قصة الإسلام